يعد العمق الاستراتيجي أحد المفاهيم الجوهرية في الدراسات الجيوسياسية والأمنية، إذ يعبر عن مدى قدرة الدولة على الصمود والمناورة والتكيف في مواجهة التهديدات والأزمات، سواء كانت داخلية أو خارجية. ويتكون هذا العمق من مزيج معقد من العوامل، تشمل الامتداد الجغرافي، والموارد الطبيعية، والقدرات العسكرية، والتحالفات السياسية، فضلا عن الاستقرار الداخلي والقدرة على توظيف الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية بفاعلية.
رغم صغر حجم الاردن الجغرافي وموارده الطبيعية المحدودة، يتمتع بعمق استراتيجي فريد، جعله لاعبا محوريا في المنطقة، وعامل استقرار في إقليم يعج بالصراعات، وتكمن هذه الخصوصية في قدرته على استثمار موقعه الجغرافي، وتحالفاته الإقليمية والدولية، ومهارته الدبلوماسية، لبناء منظومة أمن قومي مرنة ومتوازنة.
الأردن يقع في قلب منطقة الشرق الأوسط، ويجاور دولا تشهد اضطرابات مزمنة، مثل سوريا والعراق وفلسطين المحتلة والكيان الصهيوني ، ورغم ما قد يشكله هذا الموقع من تهديد مباشر للأمن الوطني، فإنه يمنح الأردن أيضا فرصة للعب دور الوسيط الإقليمي والدولي في كثير من الأزمات، مما يعزز من قيمته الاستراتيجية لدى القوى الكبرى.
تمتلك القوات المسلحة الأردنية خبرة طويلة في التعامل مع التهديدات غير التقليدية، مثل الإرهاب وتهريب الأسلحة، بالإضافة إلى قدرات عالية في التدريب والتخطيط. ويشارك الجيش الأردني بفعالية في قوات حفظ السلام الأممية، مما يعزز من سمعته العالمية. كما أسهمت الشراكات العسكرية مع الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الخليج في تطوير قدراته التقنية واللوجستية.
يستند العمق الاستراتيجي الأردني إلى شبكة قوية من التحالفات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى علاقات متينة مع دول الخليج العربي. وتوفر هذه العلاقات دعما سياسيا واقتصاديا وأمنيا، يسهم في تعزيز قدرة الدولة على مواجهة الضغوط الإقليمية والعالمية، فضلا عن تمكين الأردن من لعب دور متوازن في القضايا الحساسة، مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
رغم قلة الموارد الطبيعية، لا سيما النفط والمياه، نجح الأردن في بناء اقتصاد يعتمد على تنوع القطاعات، مثل الخدمات، والسياحة، والصناعات الخفيفة، والتعليم. كما يستفيد من تحويلات المغتربين، والمساعدات الدولية، واتفاقيات التجارة الحرة، خاصة مع الولايات المتحدة وأوروبا. وتعزز هذه المقومات من القدرة الاقتصادية للدولة على الصمود في وجه الأزمات.
يتمتع الأردن بمكانة سياسية متميزة على الساحة الدولية، بفضل سياسته الخارجية المتزنة، التي تقوم على الحوار، وعدم التدخل، والوساطة في النزاعات. وقد لعب دورا مهما في عدة ملفات، أبرزها القضية الفلسطينية، والأزمة السورية، ومكافحة الإرهاب، ما جعله شريكا موثوقا لدى العديد من الدول الكبرى.
رغم ما تمر به المنطقة من اضطرابات، حافظ الأردن على تماسكه الداخلي، بفضل مؤسسات الدولة، ووعي المجتمع، وقيادة سياسية تسعى للحفاظ على الأمن والتوازن المجتمعي. ويسهم هذا الاستقرار في تعزيز العمق الاستراتيجي للدولة، ويمنحها قدرة على استيعاب اللاجئين، واحتواء الضغوط الخارجية دون أن تنهار بنيتها الداخلية.
وفي الختام يجسد العمق الاستراتيجي الأردني حالة فريدة من القدرة على التكيف في بيئة إقليمية مليئة بالتحديات. فرغم محدودية الموارد والمساحة، استطاع الأردن عبر عقود أن يكرس لنفسه مكانة فاعلة، مستندا إلى توازن دقيق بين القوة الصلبة والناعمة، والتحالفات الذكية، والدور الدبلوماسي النشط، وهو ما يجعل من تجربته نموذجا للدول الصغيرة التي تسعى لصناعة تأثير يتجاوز حدودها الجغرافية.
0 تعليق