يعتبر الكثيرون استخدام الأمثال والتعبيرات الشعبيّة أو العاميّة في معرض التعليق على مجريات الأحداث السياسيّة أمراً سطحيّاً وساذجاً وحتى سوقيّاً لا يتناسب مع رطانة التحليل وبرستيج المُحلِّل.
ولكن من أهم الدروس التي تُعلّمنا إيّاها الأنثروبولوجيا أو علم الإناسة ألّا نستخفّ إطلاقاً بالحكمة الشعبيّة؛ فهذه الحكمة هي خلاصة تجربة شعب ما أو ثقافة ما وقد وصلت إلينا مكثّفة ومُشفّاة بعد أن صمدت على صخرة التجربة الحياتيّة والواقع العمليّ عبر الزمن.
من الأمثال الشعبيّة التي تعنّ على البال منذ انطلاق معركة "طوفان الأقصى" المباركة ولغاية الآن المَثَل القائل "حوّاس السم بذوقه"، أي طاهي السم أو مَن يحرّك ويقلّب الأخلاط في الأوعية والقدور صانعاً السمّ للآخرين لا بدّ وأن يناله في نهاية المطاف شيء من زعاف السم الذي حضّره بيديه، ويقابله في الفصحى "كما تدين تدان"، ويقابله في الإنجليزيّة (what goes around comes around).
هذا المَثَل ينطبق على الأنظمة العربيّة والإسلاميّة التي تواطأت منذ انطلاق "طوفان الأقصى" ضدّ مقاومة الشعب الفلسطينيّ وجبهات إسناده، وتتواطأ منذ سنوات طويلة ضدّ مجمل ما يُسمّى "محور المقاومة"، وذلك عبر ما حيك ويحاك من مؤامرات ودسائس وفتن، والأدوار التي لعبتها وتلعبها هذه الأنظمة إن تخطيطاً أو تمويلاً أو تدريباً أو إسناداً أو تحشيداً أو تسهيلاً.
على أي شيء تراهن هذه الأنظمة؟ وعلى ماذا تبني تصوّرها حين تظن أنّ تواطؤها وتماهيها مع المخططات والمشاريع الصهيو - أمريكيّة سيضمن لها السلامة والبقاء والاستمرار متى ما حلّ الدور عليها تالياً ضمن سلّم الأولويّات؟!
الفتن والطائفيّة والتفكيك والتجزئة هي "كأس دوّارة" سيشرب منها الجميع!
ولعلّ هذا الكلام في السياق الحالي ينطبق أكثر ما ينطبق على تركيا، إذ يبدو أنّ انتشاء "أردوغان" ببرغماتيّته وفهلوته السياسيّة المغلّفة بورقة سولفان إسلامويّة، خاصّة بعد دوره التآمري في إسقاط النظام السوريّ وطعن "محور المقاومة" في ذروة المواجهة في مقتل (وغدره بروسيا).. يبدو أنّ هذا الانتشاء قد صوّر له أنّ الأمريكيّ والصهيونيّ يمكن أن يسمحا له بأن يبقى اللاعب الإقليميّ الذي يمتلك في يده كلّ هذه الأوراق، ويستغلّها في "النطوطة" من حبل إلى آخر إلى آخر!
وينطبق هذا الكلام أيضاً على دول الخليج، والتي لا يُعرف من أين تبادَر لها هي الأخرى أنّه في حال نجاح المخططات الصهيو - أمريكيّة بالفعل، وتنفيذ مشاريع الطاقة والمعابر الكبرى المرسومة على الورق.. من أين تبادَر لها أنّ الأمريكيّ والصهيونيّ سيقبلان بأن تضلّ هذه المشاريع تحت سيادة وتحكّم و"رحمة" هذه الدول؟! وأنّ الأمريكيّ والصهيونيّ لن يبادرا فور تدشين هذه المشاريع إلى وضع اليد عليها (إلى جانب موارد الطاقة) بحجّة حماية أمن واستقرار الاقتصاد العالميّ والتجارة العالميّة من القلاقل والاضطرابات (والتي سيتم افتعالها في حينه بطبيعة الحال)، وخشية أن تسقط هذه المشاريع والموارد في "الأيدي الخطأ"؟!
المَثَل الثاني الذي يحضر في الذهن هو "لو بدها تشتي كان غيّمت"، وهو ينطبق على "أبو محمد الجولانيّ" سابقاً "أحمد الشرع" حاليّاً، والذي ما يزال الكثيرون يصرّون على الكذب على أنفسهم ومحاولة إقناع ضمائرهم بأنّه صاحب مشروع إسلاميّ/ جهاديّ/ ثوريّ/ تحرّريّ حقيقيّ، وأنّه لا بدّ سيدخل في نهاية المطاف في مواجهة مباشرة ضدّ الكيان الصهيونيّ باسم الدين والجهاد والجولان وفلسطين، ولكنّه مضطر في الوقت الحالي لأن "يهدّي اللعب" قليلاً إلى أن تستقر وتستتب الأمور له، ويستطيع أن يُحكِم سيطرته وسلطته على الأوضاع تماماً.
الذي جهّز عقود بيع وخصخصة وتسليم ثروات وموارد ومرافق ومؤسسات سوريا إلى الأجنبيّ قبل حتى أن يدفأ كرسيّ الرئاسة أسفل منه، والذي هيّأ وسمح بأن تُدمّر وتُباد مقوّمات وقدرات الجيش العربيّ السوريّ التي راكمها عبر سنوات طويلة في غمضة عين.. من المُستبعَد أن يدخل في حرب أو مواجهة مع الكيان الصهيونيّ في يوم من الأيام (إلّا اللهم مناوشات محدودة قد يتمّ افتعالها من أجل تلميع صورته قليلاً، أو تمهيداً لمحادثات ووساطات تُفضي في النهاية إلى التوقيع والتطبيع).
ولو فرضنا أنّ قيام "الجولانيّ/ الشرع" بالبيع "عن جنب وطرف" هو جزء من خطة "تمسكن حتى تتمكّن" التي ينفّذها، ماذا أبقى له من موارد ومصادر حتى يعتمد عليها ويركن إليها في حربه المقبلة؟ المسألة أشبه بالمقطع الشعري لـ "مريد برغوثي" في قصيدته "ذيل طاووس يمسّ مقابر الموتى":
((فوضى تسمّي نفسها نسقاً..
وصحراء تسمّي رملها طُرُقاً..
ومهزوم على الأنقاض يلمس شاربه [أو لحيته]
أرأيتَ عصفوراً يبيع ويشتري الأقفاص..
أم أبصرتَ بحّاراً يُخلّع باليدين مراكبه))؟!
ثمّ ألا يُعتبر هذا السلوك من قِبَل "الجولانيّ/ الشرع" وفق مقاييس الذين احتكروا لأنفسهم الدين والحديث باسمه ضرباً من "التُقْيْة"؟! ولماذا التُقية حرام وعقيدة باطلة عندما تصدر عن الآخرين.. ولكنها مقبولة ومباحة من قِبَل أبناء "الفرقة الناجية"!
طبعاً هناك في معسكر "الجولانيّ/ الشرع" أشخاص وجماعات "قاظبين الشغلة جدّ"، و"مصدقين حالهم"، وينطلقون فعلاً من بواعث جهاديّة وتحرّريّة مخلصة (بغض النظر عن مدى الإقرار بالاجتهادات والآراء التي يستندون إليها وينطلقون منها).. ولكن ها هي الأرضيّة قد تمّ إرساؤها بالفعل من أجل التخلّص من هؤلاء حتى لا يكونوا حجر عثرة أو مصدراً لوجع الرأس وذلك بحجّة الذريعة القديمة الجديدة المُجرّبة: محاربة داعش!
ولن نقول لهؤلاء "جاجة حفرت ع راسها عفرت"، أو "إللي من إيده الله يزيده"، أو باللهجة المصريّة "آخرة خدمة الغُزّ علقة".. بل سنقول لهم "ربنا بالعين ما شافوه بالعقل عرفوه"، فمن أين صوّر لكم غباؤكم أنّ الغرب وأميركا والكيان وأعوانهم وأذنابهم من الطواغيت كانوا يمدّونكم بكلّ هذا الدعم طوال السنوات في حربكم على النظام السوريّ والدولة السوريّة لكي تقوموا في نهاية المطاف بتأسيس دولة أو ولاية إسلاميّة حقيقيّة؟!
المَثَل الثالث الذي يحضرنا هو "100 إخص ولا الله يرحمه"، وهو يسري على الأنظمة العربيّة والإسلاميّة التي تقف موقف المُنسحق ومنزوع الإرادة إزاء الأمريكيّ والصهيونيّ بينما أهالي غزّة وعموم فلسطين يتعرّضون لحرب إبادة وتهجير ممنهجة، وإحجام هذه الأنظمة عن الإتيان بأضعف الإيمان المُتوقَّع منها في مثل هذا السياق: كقطع كافة العلاقات مع الكيان الصهيونيّ، والاعتراف بفصائل المقاومة رسميّاً كحركات تحرّر وطني مشروعة!
ويمكن أن نقاطع هذا المثل بمثل "الكذب ملح الرجال"، وذلك في ضوء محاولة هذه الأنظمة تمويه وتجميل حقيقة تخاذلها عبر الاختفاء وراء تصريحات رنّانة، أو مناشدات طنّانة للمؤسسات الأمميّة والمجتمع الدوليّ، أو حراك قانونيّ ودبلوماسيّ لا يسمن ولا يغنيّ من جوع، أو عصبها برأس مواقف جماعيّة وُلدت ميّتة مثل بيان قمة الرياض العربيّة والإسلاميّة السابقة، أو خطة الإعمار التي تمخضت عنها قمة القاهرة الأخيرة، والتي أعلن الأمريكيّ والصهيونيّ رفضهما لها قبل أن يجفّ حبرها!
وهناك المَثَل القائل: "على بال مين يللي بترقص بالعتمة"، أو باللهجة المصريّة "زي إلّلي رقصت ع السِلِم"، وهو ينطبق للأسف على الحبيبة مصر، ودورها ودبلوماسيّتها الحاليّين اللذين لا يتناسبان إطلاقاً مع حجمها الحقيقيّ؛ فمصر هي "أم الدنيا"، ومصر هي "الولّادة"، ومصر هي في القلب من المشروع الإمبرياليّ الرأسماليّ الغربيّ وشبكة تقاطعاته ومنافساته وصراعاته منذ لويس الرابع عشر، ومنذ نابليون بونابرت وحملته على مصر.. ولغاية الآن!
العرب كلّهم والمسلمون كلّهم لا يمكن أن تقوم لهم قائمة بلا مصر، وإذا عطست مصر أصيب العرب والشرق كلّه بالزكام، لذا كارثة حقيقيّة أن نجد دور مصر التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا والحضارة ينحصر في ممارسة "الوساطة" بين الضحيّة والجلاد، ومحاولة استرضاء الجميع واستمالة الجميع أملاً باستدرار المزيد من المساعدات والدولارات والاستثمارات التي تقضم أرض مصر واستقلاليّتها وسيادتها و"شخصيّتها" و"سرّها الباتع" قطعة قطعة.
نحن جميعاً قبل أرض الكنانة نفسها ندفع حاليّاً ثمن انحسار دور مصر ونفوذها، والجهد المُننهج الذي بُذِل منذ عهد "السادات"، وتكرّس في عهد "مبارك"، من أجل تقييف أكتاف مصر، وتقليم أذرعها، وحشر المارد الذي تمثّله على الساحة الإقليميّة والدوليّة في قمقم حدودها القُطريّة!
بعض محبّي مصر (وأنا في مقدمة محبي مصر)، يحاولون تبرير مواقف النظام المصريّ الحاليّة بأنّه يدرك تماماً أنّ المستهدف الحقيقيّ بعد خطوة أو خطوتين هو مصر، وأنّه بعد الإجهاز على العراق والجيش العراقيّ، وسوريا والجيش السوريّ، فإنّ الدور تالياً سيحلّ على مصر والجيش المصريّ (خير أجناد الأرض) حسب قائمة الأولويّات وبنك الأهداف.. وأنّ مصر بدبلوماسيّتها الحاليّة تحاول تأخير هذه المواجهة الحتمية قدر الإمكان، وعدم إعطاء العدو الحجّة والذريعة ما أمكن.
ولكن إلى متى يمكن تأخير ما ليس منه بدّ؟! ولو أنّ مصر مثلاً ألقت بثقلها لإحكام السيطرة على الأوضاع في ليبيا منذ اليوم الأول، وعلى السودان، ولو أنّها قصفت سدّ النهضة الأثيوبيّ بمجرد ما وُضعت أول لبنة فيه أو احتلته ووضعت يدها عليه بمجرد تدشينه، ولو أنّها دعمت صمود واستمرار الجيش العربيّ السوريّ باعتباره الجيش الأول في عقيدة مصر القتاليّة، ولو أنّها قالت "فيتو" منذ أول رصاصة أطلقها الكيان الصهيونيّ ضد غزّة وأهلها، ولو أنّها أعلنت فتح معبر رفح لدخول المساعدات والإمدادات من طرف واحد تحت طائلة إعلان الحرب على كلّ من يمسّ ولو كاوتش عربية لوري مصريّة.. أليس هذا كلّه هو أفضل طريقة لدفع الخطر عن مصر وجعل العدو يعدّ للألف قبل أن تسوّل له نفسه استهداف مصر وجيشها وشعبها؟
وهناك مَثَلان آخران موحيان يحضران الآن، الأول "من قلّة الخيل ركّبوا على الكلاب سروجة"، والثاني "فلان بشلّح الميّت" كناية عن الطمع والجشع والتكسّب والرخاصة، ونترك لخيال القارئ تقدير على أي نظام/ أنظمة عربية يسري هذان المثلان أكثر!
مَثَل آخر يحضرنا هو "ما قِدِر على الحمار دَق بالبردعة"، وهو يسري على الأحزاب والحِراكات والفعاليات السياسيّة والشعبيّة والمثقّفين والأكاديميين والكتّاب وكلّ مَن فاخرنا قبل "طوفان الأقصى" بأنّه ينتمي إلى "انتلجتسيا" المجتمع وكريمته، والذين توزّعت مواقفهم ما بين الصمت المطبق، أو البكائيّات واللطميّات والخذلانيّات، أو تسطير وتدبيج وتوقيع بيانات كلاشيه ممجوجة ومكرّرة لا يقرأها أحد، أو تنظيم وقفات ومسيرات استعراضيّة تغلب عليها عقلية الـ (event)، وأحياناً افتعال معارك جانبيّة تُلهي الناس بحجّة منع الفعاليّة الفلانيّة أو قمع التظاهرة العلتانيّة أو محاولة قوى وفئات بعينها احتكار الشارع والميكريفون.. كلّ ذلك لتمويه ذلك الاتفاق الضمنيّ والصفقة الضمنيّة التي أبرمتها هذه القوى مع "السلطات" منذ اليوم الأول، وتعمّدها الابتعاد عن خيارات أخرى مؤثّرة للاحتجاج والرفض والضغط تعلم يقيناً أنّها ستستثير حنق السلطات، مثل تحريك ساحة المدارس والجامعات، أو التركيز أكثر على نهج المقاطعة، أو الدعوة إلى الاعتصامات المفتوحة أو الإضرابات العامّة إذا اقتضت الضرورة كبديل عن الوقفات والمسيرات الاستعراضيّة!
وفي عجقة وكركبة هذه الأحزاب والحِراكات والقوى الشعبيّة العربيّة يمكن أن نفرز تيارين رئيسيّن متمايزين: فهناك اليساريون والقوميّون بكافة أطيافهم، أو من يدّعون أنّهم كذلك، وهؤلاء يصدق عليهم المَثَل الشعبيّ: "بجهنم وبتباعصوا". وبعض قياداتهم وكوادرهم يصدق فيهم المَثَل: "إجو تا يحذوا الخيل الفار مد إجره"، وذلك نظراً لتضخّم ذواتهم وأنواتهم الذي لا يتناسب مع حجم حضورهم وتأثيرهم الفعليّ على الأرض، وحقيقة أنّه "ما حدا سامع فيهم"، و"ما حدا حلمان فيهم"، و"ما حدا بواردهم"، و"ما حدا جايب طاريهم"!
وهناك الإسلامويّون الذين يتّخذون من المسمّيات الإسلاميّة والخطاب المُشبع بمفردات دينيّة ومظاهر التديّن الشكلانيّة الطقوسيّة صبغةً وغطاءً ومادةً دعائيّة، وهؤلاء يصلح فيهم التشبيه الشعبيّ "ذَنَبه نجس"، أو المَثَل القائل "بصلّي الفَرض و..... (ينتهك) العرض" كنايةً عن برغماتيّتهم وانتهازيّتهم القميئة التي لا تتناسب مع مبادئ الدين ومبدئيّته!
وأخيراً يحضرنا المثل القائل "ذيب بلع منجل.. ساعة خـ .... (قضاء حاجته) تسمع عواه"!
وهذا المثل يسري على عصابة الحرب الصهيو - أمريكيّة وعلى رأسها المسعورَين "ترامب" و"نتنياهو"، والعنجهيّة التي يتكلمان بها في غمرة انتشائهم بما حقّقوه للآن بفعل تخاذل وتواطؤ الأنظمة العربيّة والإسلاميّة لا بفعل قوّتهم الحقيقيّة، وظنّهم بأنّهم سيستطيعون ابتلاع المنطقة وتبديل ملامح الشرق الاوسط وتغيير ملامح التاريخ وحرف مساره وبوصلته، ومتناسين المثل القائل "الحجر إلّلي ما بعجبك بفجّك"، وأنّ استخفافهم بالإنسان والبشر عموماً، وبالإنسان العربيّ والمسلم تحديداً، هو ما سيكون مقتل مخططاتهم ومؤامراتهم الشيطانيّة كما يفعل أهلنا الأبطال في غزّة ومخيّمات الضفّة وجنوب لبنان واليمن الآن، وحتى لو كان لسان حال بقية سواد (أو غثاء) الأمّة في الوقت الحالي هو "امشي الحيط الحيط وقول يا رب الستر"، و"حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس"، و"إللي بتجوّز أمي بقلّله يا عمّي"، و"الإيد إلّلي ما بتقدر عليها بوسها وادعي عليها بالكسر"!
0 تعليق