عقد مركز القدس للدراسات السياسية لقاءً حوارياً تحت عنوان "تركيا وإسرائيل في سوريا: مسار تعاون أم مسار صدام؟"، وذلك يوم السبت الموافق 19 نيسان/أبريل 2025، بمشاركة نخبة من الخبراء والباحثين في الشأنين التركي والإسرائيلي، تحدث خلالها كل من الدكتور سمير صالحة، أستاذ القانون والعلاقات الدولية، العميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب، والأستاذ الدكتور محمود يزبك، المؤرخ والباحث الفلسطيني، حيث تناولا في مداخلتيهما أبعاد العلاقات التركية الإسرائيلية على الساحة السورية، ومستقبل التوازنات الاستراتيجية في المنطقة. وقد تركزت النقاشات حول الاتجاهات المحتملة لتطور العلاقات بين البلدين، سواء نحو التصعيد والمواجهة أم نحو تقاسم النفوذ والتعاون، ضمن معادلات إقليمية ودولية شديدة التعقيد.
في بداية "الحوارية"، رحب الأستاذ عريب الرنتاوي، مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية بالمشاركين، مؤكداً أهمية البحث في هذا الموضوع الذي يشهد اهتماماً متزايداً منذ الثامن من ديسمبر، خاصة من قبل الأوساط الأكاديمية والسياسية في المنطقة والعالم. وأوضح الرنتاوي أن التساؤل المركزي الذي بات يفرض نفسه هو: هل نحن أمام مسار تعاون بحكم الأمر الواقع، أم مسار صدام مفتوح مباشر أم غير مباشر، بين دولتين لكل منهما موقع استراتيجي خاص، تركيا كدولة أطلسية، وإسرائيل التي وصفها بـ"الدولة ذات المكانة الفوق أطلسية".
وأشار في كلمته إلى عدة سيناريوهات مطروحة على الطاولة لفهم ملامح المستقبل السوري في ظل التفاعل التركي الإسرائيلي، منها "سيناريو حروب الوكالة" التي تعيد إنتاج ما شهدته عشرية الربيع العربي، كما يظهر في العلاقة المتوترة بين أنقرة وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أو في توازنات الجنوب السوري. كما تحدث عن "سيناريو التعاون وتقاسم النفوذ"، وهو ما بدا ممكناً بعد الجولة الأولى من محادثات باكو، والتي أعادت إلى الأذهان آلية التنسيق التي توصل إليها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2015. وأضاف أن سيناريو الصدام المباشر يبدو مستبعداً في الوقت الراهن، لكنه لم يُلغَ من قائمة الاحتمالات، خاصة في ظل تشابك المصالح وتعدد الفاعلين في الملف السوري.
وطرح الرنتاوي جملة من الأسئلة كمقدمة للنقاش: ما هي مصالح تركيا في سوريا؟ وما هي أبرز المخاوف التي تسعى لتفاديها؟ وما هي الأدوات التي تعتمد عليها للحفاظ على مصالحها؟ في المقابل، ماذا تريد إسرائيل من سوريا؟ وهل تعمل على تفكيك الدولة السورية من خلال "حلف الأقليات"؟ وكيف تسعى لحماية مصالحها، لا سيما في ضوء استهدافها المتكرر للبنى التحتية العسكرية السورية؟ وأخيراً، ما موقع سوريا بين هذين القطبين؟
في مداخلته، قال الدكتور سمير صالحة، إن ثمة في أوساط حزب العدالة والتنمية الحاكم بتركيا قناعة متزايدة بأن تركيا مستعدة للمواجهة مع إسرائيل، ليس فقط بسبب التطورات في سوريا، وإنما في ضوء ملفات إقليمية أخرى متعددة. واعتبر أن السؤال الأهم في هذا السياق هو: هل يخدم التوتر مع إسرائيل السياسة الداخلية التركية؟ ليجيب بأن هناك مؤشرات سابقة تُظهر أن ذلك قد حصل فعلاً، وأن هذا التوتر استُخدم أكثر من مرة لتعزيز مواقف داخلية.
لكن صالحة شدد في المقابل على أن أي تصعيد إلى مستوى المواجهة العسكرية المباشرة بين تركيا وإسرائيل لا يخدم مصالح أحد، واصفاً هذا السيناريو بأنه غير مرجح بسبب أضراره البالغة على مصالح الطرفين. وأشار إلى أن الولايات المتحدة، رغم اهتمامها المحدود حالياً بالملف السوري لصالح التركيز على إيران ومسارات الاقتصاد والتجارة، قد تدعم في بعض الحالات تصعيداً محدوداً يهدف إلى تذكير الطرفين بأن تكلفة المواجهة ستكون عالية، لكن في المحصلة فإن صداماً مفتوحاً لا يصب في مصلحة واشنطن، التي تتابع انحسار نفوذ بعض الأطراف في سوريا، في إشارة إلى إيران وروسيا.
وأكد صالحة أن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بدور مهم، لكنها تمضي في تنفيذ رؤية جديدة لإعادة التموضع في الشرق الأوسط، ولن تسمح بصدام كبير بين حليفين مثل تركيا وإسرائيل، نظراً لانعكاسات ذلك على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. كما أشار إلى أن الطرفين – التركي والإسرائيلي – يمتلكان العديد من الأوراق لممارسة الضغط المتبادل، لكن حتى الآن لم تخرج أي آلية واضحة للتهدئة أو التنسيق بين الجانبين إلى دائرة الضوء.
من جانبه أكد الدكتور محمود يزبك في مداخلة أن ما جرى في سوريا لا يمكن فصله عن التحرك التركي المبكر والمنهجي حيال سوريا واالإقليم، وأن إسرائيل تدرك تمامًا أن أنقرة هي من تتصدر المشهد وليس العكس. وأنه ومنذ اللحظة الأولى لتولي أحمد الشرع السلطة في سوريا، لم تُضِع أنقرة الوقت. وسرعان ما ظهرت إشارات واضحة لتقارب تركي سوري، تمثل في زيارات متكررة لكبار المسؤولين الأتراك إلى دمشق. وبعد ما يقل عن شهرين، عقد الشرع لقاءً مهمًا مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ناقشا فيه اتفاق دفاع مشترك شمل بناء نظام دفاع جوي متكامل وهيمنة تركية على تشكيلات الجيش السوري الجديد، وبناء قواعد في وسط سوريا.
المفارقة، كما أشار يزبك، أن إسرائيل لم تكن المبادر في هذا السياق، بل جاءت خطواتها كرد فعل على التحرك التركي. فالتخطيط كان من الجانب التركي، فيما وجدت تل أبيب نفسها تتبع تطورات خارجة عن نطاق سيطرتها، لذلك استغلت إسرائيل مستجدات ما بعد سقوط نظام الأسد فوراً لتعيد تموضعها ميدانيًا، ناقضة اتفاق فض الاشتباك المبرم عام 1974. لتحتل مناطق شرقي خط الهدنة الممتد من جبل الشيخ حتى منابع نهر اليرموك، على مشارف العاصمة دمشق، ثم وتحت ذريعة حماية القرى الدرزية، شرعت في تنفيذ خطط لضمها إداريًا وفتح فرص العمل لسكانها داخل الجولان المحتل...مشدداً على نقطة مركزية في التفكير الإسرائيلي، وتتمثل في "شرعنة" و"تطبيع" احتلالها للجولان السوري، وضمها إليه، واعتراف ترامب في إدارته الأولى ببسط السيادة الإسرائيلية على الهضبة المحتلة.
مضيفاً إلى أن تحول تركيا إلى لاعب رئيسي بديلًا عن إيران بعد سقوط الأسد زاد من قلق إسرائيل. فالاتفاق الدفاعي التركي السوري منح تركيا حرية حركة جوية داخل سوريا، وإمكانية تدريب الجيش السوري الناشئ، وبناء قواعد عسكرية وجوية، بما يشمل مناطق في البادية السورية. كما أتاح الاتفاق للجيش التركي الانتشار في أنحاء سوريا كافة، بما في ذلك مناطق تعتبرها إسرائيل ضمن نطاق حمايتها الأمنية، ما يمثل تحديًا مباشرًا لمصالحها.
وأضاف يزبك، أن أنقرة ترى أن السيطرة على دمشق تفتح المجال للتأثير في العراق ولبنان، وتعزز نفوذها أمام القوى العظمى. كما أن تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، تحظى بدعم من الولايات المتحدة في إطار مساعي واشنطن لإبعاد روسيا عن الساحة السورية. وضمن هذه الرؤية، يطرح أردوغان نفسه كبديل محتمل للوجود الأميركي في سوريا، بشرط أن تتخلى الولايات المتحدة عن دعمها للأكراد.
وقال: إن الانسحابات المتزايدة للوجود الامريكي في سوريا، والذي شكل تخلٍّ عمليًا عن حلفائها الأكراد، والاتفاق المبرم مؤخراً بين الأكراد والنظام السوري، بغطاء تركي وأميركي، الذي نص على دمج القوات الكردية في الجيش السوري، منح أنقرة نفوذًا إضافيًا وقلّص من ورقة الضغط الإسرائيلية في الملف الكردي.
وهو ما دفع إسرائيل وفقاً ليزبك، لشن غارات جوية كثيفة على مواقع سورية، مستهدفةً القواعد العسكرية والمنشآت الجوية، في محاولة منها لمنع نشوء تهديد حقيقي على حدودها. ورغم هذه الهجمات، يبدو أن إسرائيل بدأت تدرك تدريجيًا أنها تخسر موقعها داخل سوريا، في ظل تعاظم الدور التركي وتعقّد المشهد الإقليمي.
وفي ختام مداخلته، أشار الدكتور يزبك إلى تصريحات وزير الخارجية التركي، التي أكد فيها أن بلاده لا تسعى إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل. إلا أن المعطيات الميدانية تشير إلى تصاعد التوتر بين الطرفين، خاصة في ظل تراجع الدور الأميركي وغياب موقف واضح من إدارة الرئيس دونالد ترامب، التي تبدو منشغلة أكثر بدعم تل أبيب إعلاميًا دون تقديم ضمانات أمنية حقيقية على الأرض.
في ختام اللقاء، أشار المشاركون إلى أن العلاقات التركية الإسرائيلية في سوريا لا تزال قيد البحث والتقييم، خاصة في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية. فقد تؤدي نتائج المفاوضات الجارية مع إيران إلى سيناريوهين متناقضين، إما التوصل إلى اتفاق مع طهران، أو التصعيد نحو ضربة عسكرية ضدها. وأي من هذين السيناريوهين سيترك تأثيرًا كبيرًا على التحولات الإقليمية، وسينعكس بلا شك على الاصطفافات الاستراتيجية في المنطقة، مما يضاعف من تعقيد العلاقات بين القوى الإقليمية والدولية.
أخبار متعلقة :