في عالم يموج بالتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية، تبقى الدراما واحدة من أكثر الأدوات الإعلامية تأثيرًا في تشكيل الوعي الجمعي وترسيخ القيم. فالدراما لا تقتصر على الترفيه أو محاكاة الواقع فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى أداء دور عميق في بناء الهوية الوطنية وتعزيز اللحمة المجتمعية. إنها تستحضر التاريخ، وتحاكي الحاضر، وتصوغ المستقبل عبر شخصيات تعكس آمال الناس وصراعاتهم اليومية، ما يجعلها وسيلة فعالة لتمرير الرسائل الوطنية بطريقة غير مباشرة، لكنها عميقة التأثير.
حين تنجح الدراما في تجسيد رموز وطنية أو نقل تضحيات الأفراد دفاعًا عن الوطن، فإنها تسهم في صياغة ذاكرة جماعية تحفّز على الفخر والارتباط، وتتحول إلى أداة من أدوات "القوة الناعمة" التي تعزز التماسك وتُحصّن المجتمعات في وجه التفكك أو التحديات الخارجية. وتزداد أهمية هذا الدور في السياقات التي تشهد اضطرابات سياسية أو تهديدات أمنية، حيث يصبح الخطاب الدرامي رافعة ثقافية للمناعة الوطنية.
من أبرز الأعمال التي كرّست هذا الدور يأتي مسلسل "وجه الزمان"، وهو عمل درامي أردني تناول بطولات الجيش العربي الأردني ومشاركته المصيرية في الدفاع عن فلسطين، مقدّمًا معالجة إنسانية واقعية لمواقف تتسم بالشجاعة والانتماء. يبرز العمل نماذج من الفداء والتضحية في سبيل الأرض والواجب، ويعيد عبر المشاهد الدرامية إحياء محطات مفصلية من التاريخ الوطني، ما يجعله تجربة مؤثرة في استحضار الذاكرة الجمعية وتعزيز الوعي بأهمية الثبات في مواجهة التحديات.
ويُضاف إلى ذلك مسلسل "عودة أبو تايه"، الذي قدّم سيرة القائد التاريخي أحد رموز الثورة العربية الكبرى، مستعرضًا نضاله من أجل الكرامة والسيادة. يعيد العمل تشكيل صورة البطل الوطني الذي يتجاوز انتماءاته القبلية لصالح الانتماء العربي العام، ويجسّد من خلال شخصية محورية ملامح البطولة المجتمعية والتضحية من أجل قضية عليا، الأمر الذي يمنح المشاهد فرصة للتأمل في معاني الهوية والوحدة والانتماء.
ولعل من أبرز النماذج على مستوى الوطن العربي مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، الذي نقل معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، لكنه في الوقت ذاته أظهر وحدة العائلة والمجتمع الفلسطيني في وجه التهجير والتشريد. وقدّم سردية إنسانية راقية تمسّ قلوب المشاهدين، وتُحافظ على القضية حية في الوجدان، بما يتجاوز البعد المحلي إلى أفق قومي جامع. ومثل هذا العمل لا يكرّس فقط الهوية الفلسطينية، بل يعزز أيضًا خطاب الصمود والوحدة على مستوى أوسع.
وفي السياق ذاته، يأتي مسلسل "الاختيار" في مصر، الذي وثّق بطولات رجال الجيش والشرطة في مواجهة الإرهاب من خلال تناول قصص حقيقية، بأسلوب درامي قوي ومؤثر. وقد ساهم في إعادة ربط الجمهور، وخاصة الشباب، بنماذج وطنية واقعية، وعزّز الشعور بالفخر والانتماء، عبر تقديم صورة متوازنة تجمع بين الواجب العسكري والبعد الإنساني.
وبالإضافة إلى ما سبق، يأتي مسلسل "الدوار العاشر" ليكمل هذا الإطار من الدراما الوطنية، حيث يتناول بطولات الجيش الأردني في حماية الحدود من عمليات الإرهاب وتهريب المخدرات. يُبرز المسلسل الصراع اليومي الذي يخوضه الجيش الأردني في التصدي لهذه التهديدات، ويعرض تضحيات الجنود في مواجهة أخطار تهدد أمن البلاد من الداخل والخارج. من خلال هذه القصص، يعكس العمل جوانب البطولة التي تميز جنود الجيش الأردني في دفاعهم عن وطنهم ضد الأخطار المتعددة، ويعزز الشعور الوطني لدى المشاهدين، مشيرًا إلى الدور الهام للجيش في حماية الحدود والحفاظ على الاستقرار الداخلي.
ورغم ما تحققه هذه الأعمال من نجاحات في ترسيخ مفهوم اللحمة الوطنية، إلا أن الطريق ليس خاليًا من التحديات. فبعض الإنتاجات تقع في فخ الخطاب المباشر أو الطابع الدعائي، ما يضعف من تأثيرها الفني والجماهيري. كما أن تغييب التنوع المجتمعي أو تمثيله بشكل نمطي قد يؤثر على مصداقية الرواية الوطنية. هذا إلى جانب المعوقات المتعلقة بالتمويل، وغياب الاستثمار الاستراتيجي في المحتوى الذي يخدم القيم الوطنية بوسائل إبداعية وحديثة.
ومع صعود المنصات الرقمية وتغير أنماط المشاهدة، تتسع الفرصة أمام الدراما الوطنية لتخاطب جمهورًا أوسع، وتتجاوز الحدود الجغرافية، شرط أن تكون قادرة على المنافسة من حيث الجودة والرؤية الفنية. فالجمهور المعاصر لم يعد يكتفي بالرسالة، بل يتطلب سردًا محكمًا، وشخصيات واقعية، وإنتاجًا متقنًا.
إن الدراما ليست مجرد وسيلة للتسلية، بل أداة لتشكيل الوعي وصناعة الانتماء. وعندما تُبنى هذه الأداة على أساس وطني صادق، وتُقدَّم برؤية فنية ناضجة، فإنها تتحول إلى شريك حقيقي في صيانة الوحدة المجتمعية، وفي كتابة سيرة الوطن من زاوية وجدانية حقيقية. لذا، يبقى الاستثمار في الدراما الوطنية خيارًا ثقافيًا واستراتيجيًا لا غنى عنه، في زمن تتنافس فيه الخطابات والهويات على وجدان الأفراد، ويُصبح الحفاظ على اللحمة الوطنية مهمة مشتركة بين الفن والمجتمع والدولة.
أخبار متعلقة :