نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أذكياء.. ولكن أغبياء - اخبارك الان, اليوم السبت 29 مارس 2025 11:13 مساءً
العقلُ المُشرق.. والقلبُ المُعتم
الذكاءُ، بتعريفه التقليدي، قدرةٌ على التحليل والاستنتاج وحل المشكلات. لكنّ الحياةَ ليست مُعادلةً رياضيةً تُختزلُ في أرقامٍ أو مخططات.
هناك مَن يمتلكون عقولاً كالسيّافين، حادةً وقاطعة، لكنهم يفتقدونَ لُغةَ القلب التي تُترجمُ التعقيدَ الإنساني إلى أفعالٍ ذاتِ معنى. قد يُتقنُ العالِمُ تفسيرَ ظاهرةِ الجاذبية، لكنه يعجزُ عن تفسيرِ لماذا ينجذبُ إليه الناسُ ثم يبتعدون. قد يحفظُ الطبيبُ تفاصيلَ كلِّ مرضٍ، لكنه لا يعرفُ كيف يُعالجُ خوفَ مريضٍ يرتجفُ أمامه.
هنا تكمنُ المفارقة: الذكاءُ الذي يُضيءُ العقلَ قد يُظلِمُ الروحَ إن لم يُوازِنْه وعيٌ أعمق، فالحياةُ ليست مسابقةً ذهنيةً نخوضُها بمفردنا، بل هي رحلةٌ جماعيةٌ تحتاجُ إلى ذكاءٍ عاطفيٍّ يفكُّ شفرات الصمت، ويقرأ ما بين الشعور، ويُحسِن الاستماعَ إلى مالم يُقال قبلَ الصرخات.
الغريبُ أنَّ الذكاءَ قد يتحولُ أحياناً إلى سجنٍ يمنعُ صاحبَه من رؤيةِ ما وراءَ الجدار، فالشخصُ «العبقري» الذي يعتقدُ أنَّ المنطقَ هو الحلُّ الوحيدُ لكلِّ شيءٍ، قد يُصابُ بالعجزِ أمامَ موقفٍ يحتاجُ إلى تسامحٍ أو تفاهم.
إنه يُحاولُ تطبيقَ قوانين الفيزياء على علاقة عاطفية، أو يُحلِّلُ مشاعرَ صديقٍ بعقليةِ عالمِ بيانات، والنتيجة؟ فوضى عاطفية، وانفصامٌ بين ما يُفكّرُ فيه وما يُحسُّ به.
الأكثرُ إثارةً للأسى أنَّ بعضَ الأذكياءَ يَعتبرونَ «الغباءَ العاطفي» ثمناً مقبولاً للتميُّزِ العقلي، يقولون: «العواطفُ للضعفاء»، دون أن يدركوا أنَّ إنكارَ الإنسانيةِ داخلك هو أقسى أشكالِ الغباء.
فالإنسانُ ليس آلةً تُنتجُ الإجاباتِ الصحيحة، بل كائنٌ يبحثُ عن معنى، ويحتاجُ إلى أن يُحِبَّ ويُحَب.
التاريخُ يزخرُ بشخصيات كانت شعلة ذكاء، لكنها سقطت في حفرِ غبائها الإنساني. العالِمُ الذي اخترعَ سلاحاً دمارياً ثم ندمَ حين رأى آثاره، هو ذكيٌّ في الكيمياء، لكنه غبيٌّ في أخلاقياتِ العلم.
السياسيُ الذي خطّطَ بحنكةٍ للانقلاباتِ، ثم فشلَ في بناءِ دولة مستقرة، هو عبقريٌّ في المناورات، لكنه جاهلٌ في هندسةِ المجتمعات.
حتى في الأدبِ، فها هو «أبو العلاء المعري» الشاعرُ الفيلسوفُ الذي أذهلَ العصرَ العباسيَّ بفصاحتِه وعمقِ تفكيرِه، لكنَّ في كتابه «رسالة الغفران» يكشفُ عن سخريةٍ لاذعةٍ من ادعاءاتِ البشرِ بالحكمةِ المطلقة. لقد رأى بعينِ المنطقِ أنَّ الإنسانَ، رغمَ ذكائِه، يظلُّ أسيرَ أوهامِه وجهلِه بذاتِه.
لا يكفي أن نُحصِّلَ المعرفةَ كي نكونَ أذكياء. الذكاءُ الحقيقيُّ هو فنُّ الجمعِ بين نورِ العقلِ ودفءِ القلب، بين البرهانِ المنطقيِّ والبصيرةِ الوجدانية. إنه أن تَستخدمَ ذكاءَكَ ليس للتفوقِ على الآخرين، بل لفهمِهم وليس للاستعراضِ بل للعطاء.
الفيلسوفُ اليونانيُّ سقراط، رغمَ كلِّ حكمتِه، كان يردد: «كل ما أعرفُه أني لا أعرفُ شيئاً». في هذه العبارةِ تلخيصٌ لذكاءٍ أعلى: التواضعُ المعرفيُّ الذي يفتحُ أبوابَ التعلُّمِ من كلِّ شيءٍ، حتى من الذين نعتبرُهم «أقلَّ ذكاء». فالحكيمُ الحقيقيُّ لا يخشى أن يقول: «أنا غبيٌّ في هذا الأمر»، لأنَّ اعترافَه بجهلِه هو بدايةُ ذكائِه.
نحنُ نعيشُ في عالمٍ يُقدِّسُ الذكاءَ الاصطناعي، ويَقيّمُ الناسَ بمعدلاتِ الذكاءِ (IQ)، لكننا ننسى أنَّ البشرَ ليسوا أرقاماً، فقد نُنتجُ جيلاً من العباقرةِ التقنيين الذين يبرمجونَ الروبوتات، لكنهم يعجزونَ عن برمجةِ علاقةٍ ناجحةٍ مع أنفسِهم أو مع مَن حولَهم.
ربما حان الوقتُ لإعادةِ تعريفِ الذكاء: ليس كمهارةٍ فرديةٍ، بل كقدرةٍ على رؤيةِ العالمِ بشمولية، فهناك ذكاءٌ يجعلُك تسمعُ صوتَ الزهرةِ وهي تنمو، وتفهمُ صمتَ المحبوب، وتعلمُ أنَّ السعادةَ ليست في كمِّ ما تعرف، بل في كيفَ تُشاركُ ما تعرف.
فلنكن أذكياءَ بالمعنى الذي يجعلُ الحياةَ أجمل، لا الذي يجعلُنا أرقاماً في سباقٍ لا نعرفُ نهايتَه، لأنَّ الغباءَ الحقيقيَّ ليس في قلةِ المعرفة، بل في امتلاكِ المعرفةِ دونَ أن نعرفَ لماذا نعيش.
أخبار ذات صلة
0 تعليق