المحرر السياسي - من المؤسف أن يتحول مجلس النواب الذي يفترض أن يكون مرآةً لوعي الناس وآمالهم وطموحاتهم، إلى كرنفال استعراضي، لا يعكس نبض الشارع ولا يعبر عن مواقفه واتجاهاته ورقيه و ثقافته، بل يخيّب آماله، ويحبطه زيادة على احباطه، وكل هذا التشظي والخلاف والانقسام يجري بوجود الحكومة التي تعيش حالة من الاسترخاء والبحبوحة ،فالسلطة التي يفترض انها موجودة لمراقبتها ومحاسبتها منشغلة تماما وفي معظم الوقت بصراعات بينية وتصفيات سياسية هامشية لا طائلة منها ..
الأصل، أن يمثل مجلس النواب التعددية الوطنية، ويجسد سلطة الأمة، لا أن يتحول إلى ساحة صخب وصراخ تدار بأسلوب أقرب إلى "عرافة الصف" منه إلى مؤسسة دستورية تضبط إيقاعها أنظمة داخلية لا أهواء شخصية متفردة.
الأشد فداحة، أن يصبح نقد أداء رئاسة المجلس أو مساءلة بعض نوابه، جريمة تستدعي التخوين والتصنيف، فيما الأصل بأن تكون حرية إبداء الرأي مصانة، وأن تُحترم وجهات النظر مهما خالفت الآخر، لا أن تُلصق بها تهم "الذباب الإلكتروني" لمجرد أنها تطرح رأياً مغايراً.
وللتوضيح، فإن انتقاد رئاسة مجلس النواب، أو بعض النواب، لا يعني من قريب أو بعيد انحيازًا لطرف دون اخر ، لكتلة نيابية دون اخرى لتيار سياسي دون اخر ، إنما هو نقد موضوعي بتجرد، غايته ضبط الاداء، وتصويب المسار، وما كان الانحياز يومًا ليكون إلا للدولة، والصالح العام، وفي هذا السياق لا بد ان نؤكد على حقيقة ان عمليات الفرز على قاعدة من ليس مع الصفدي فهو ضد الوطن ، ما هي الا محاولات بائسة تقوم بها بعض الاقلام الصفراء لخلق ثنائية تهدف الى تحصن رئيس مجلس النواب وترفع من كلفة انتقاد ادائه غير المهني .. عمليات الشيطنة تريد دمغ الرأي المخالف لهم باختام مفصلة وفق أهوائهم وامزجتهم وانحيازاتهم .
الحقيقة أن من يشيطنون الرأي الآخر هم الأجدر بلقب الذباب الالكتروني، لأن عين الحكمة تقتضي الاصغاء لأراء الناس، بتنوعاتهم واختلاف مشاربهم، لقد باتت منصات التواصل الاجتماعي ما يتداول بها من اراء ووجهات نظر بمثابة الباروميتر الذي من خلاله يمكن قياس المزاج العام ، وفي هذه الحالة لا يمكن وصف غالبية الاراء بانها ذباب الكترونية ، الشيطنة والتخون في هذه الحالة لا يجدي نفعا ..
ولا نبالغ إذا قلنا بأن ما يجرى في مجلس النواب مؤخرًا لا يليق بالأردن ولا بمسيرته الديمقراطية، ولا ينسجم مع توجهاته المستقبلية الاصلاحية، بل نكاد نجزم أن مراكز القرار ليست راضية ابدا عن سيرورة المناقشات داخل القبة إلا بمضض، فهي تلتقط ردود أفعال الناس، وترى أن المشهد خرج عن حدود المقبول، وسياق المعقول، في وقت نحن أحوج فيه إلى تغليب صوت العقل، لا تغليب لغة الانفعال والتأزيم، او حفلات التخوين والتجريم، الأمر الذي يستدعي مراجعة جادة لتصويب مسار سلطة تمثل خيار الشعب وتطلعاته.
ثم، من غير المقبول مطلقًا إقحام مؤسسة العرش في تجاذبات نيابية، فالمقام الملكي أرفع من الزجّ به في صراعاتهم وحساباتهم ، فهو الخيمة التي تظلل جميع الأردنيين، والمقام الذي يسمو فوق التجاذبات والاختلافات، وهو الأجل شأنًا من توظيفه لاستعراضات شعبوية ساذجة.
العجيب، أن بعض أقلام الحبر الجافة، تصور قيام رئاسة المجلس بتحجيم دور النواب، والتنمر عليهم، بأنها
"كاريزما قيادية" كما تصفه "نيران صديقة"، لم تطلق رصاص دواتها لحظة على من يتحمل مسؤولية إضعاف السلطة الاهم في الدولة ، واختزالها في شخص الرئيس ..
الأقلام التي تتقن فنون الركمجة ، والتزلف، وصناعة المقالات المعلبة، وتقديم وصلات المدح، وسن أقلامها للقدح، لا تعكس الواقع المنظور جهارًا نهارًا أمام أعين الناس، بل تحاول طمسه عبثًا، وتجميله بخفة لا يمكن احتمالها . الى درجة ان احد الكتاب وضع الصفدي في خانة اولئك الذين يعرفون مخاطبة الجغرافية الاردنية بالضد من تيار البيروقراط الذي وصفه باقذع الاوصاف ، وهنا نسأل الكاتب المرموق : هل يمكن ان تكون الدوغمائية بديلا للتكنوقراط ؟!!
إن رئاسة مجلس النواب التي تنظم فيها هذه الأقلام القصائد، ليست موقعاً للهيمنة والانفعال والغضب ، بل وظيفة لضبط الجلسات، وقيادة متزنة لمسار حواري يُجنب البرلمان التحول إلى مسرح مزايدات ومناوشات وساحة تأزيم،وفي هذه الحالة فقط نستطيع ان نقول بانها ناجحة وتتمتع بكاريزما قيادية وادارة رشيدة !!
فصل القول: إن الانزلاق إلى لغة الردح والتمترس خلف الخطابات الديماغوجية، لا يصنع بديلاً سياسياً يخدم مستقبل دولة، بل يعمق الهوة، في وقت نحن في أمس الحاجة فيه الى رفع منسوب الوعي البرلماني، ليرتقي بخطابه، لا أن يهوي به إلى حضيض الاسفاف.
الذي يغيب عن بال البعض ربما ، أن رئاسة المجلس استطاعت تدشين حالة فريدة غير مسبوقة في تاريخ البرلمانات الكونية، فالخلاف والصراخ والاشتباك تحت القبة، لم يعد مع الحكومة كما هو حال برلمانات الكون، التي يفترض بالنواب مراقبتها ومحاكاتها ، بل حولته بدهاء ما بين النواب ومجلسهم، أو بشكل أدق : بين رئيس المجلس وطواحين الهواء!
أخبار متعلقة :