كتب: كمال ميرزا
فرق كبير بين الغباء والتغابي، وبين الجهل و"الاستغشام"، وبين أن يُضلّلك ويستغفلك الآخرون وبين أن تكون أنت نفسك تريد أن تُضلَّل وتُستغفَل!
هل يوجد هذه الأيام شخص من أمّة العرب أو الإسلام لا يعرف الصحيح والصواب؟ على الأقل الأساسيّات الواضحة وضوح الشمس ولا تخفى على كبير أو صغير؟!
هل هناك أحدٌ لا يعرف أنّ الجهاد بالمال والنفس فريضة؟
وأنّ تحرير فلسطين واجب دينيّ وقوميّ وأخلاقيّ؟
وأنّ الكيان الصهيونيّ عدو؟
وأنّ أمريكا ومجمل الدول الرأسماليّة الاستعماريّة عدو؟
وأنّ الكيان الصهيونيّ هو صنيعة الاستعمار، كما أنّ منظومة الدول العربيّة القُطريّة "المُستقلّة" وأجيال "نخبها" المتعاقبة هي أيضاً صنيعة وربيبة المشروع الاستعماريّ نفسه منذ "سايكس بيكو" و"سان ريمو" ولغاية الآن؟
هل هناك أحدٌ لا يعرف الخونة والعملاء وخدم أمريكا و"إسرائيل" نظاماً نظاماً، وجهازاً جهازاً، وفرداً فرداً؟
هل هناك أحدٌ لا يعرف اللصوص والمختلسين والفاسدين وناهبي أوطانهم ودولهم وشعوبهم نفراً نفراً؟!
هل هناك أحدٌ لا يعرف أنّ ما يحدث لأهالي غزّة والضفّة ومخيّماتها هي حرب "إبادة وتهجير" منذ اليوم الأول؟!
هل هناك أحدٌ لا يعرف أن "صفقة القرن" و"السلام الاقتصاديّ" و"الشرق الأوسط الكبير" و"الإبراهيميّة" هي جميعها مفاصل ضمن مخطّط أكبر لتصفية القضيّة الفلسطينيّة، وإعادة إنتاج الهيمنة الأمريكيّة في المنطقة ونهب ثرواتها ومقدّراتها من بوابة "تجزئة ما هو مُجزّأ وتفتيت ما هو مفتّت"، ومن بوابة العَوَز الاقتصاديّ وتجويع الشعوب، ومن بوابة إذكاء العنصريّات والطائفيّات والهويّات الفرعيّة؟!
حتى ما يُسمّى "الربيع العربيّ" قد آل هو الآخر ليكون مفصلاً آخر من مفاصل المخطّط المذكور أعلاه، وفيلماً محروقاً آخر لا يصرّ على الاستمرار في تصديقه والاختباء خلفه إلّا مَن كان بالغ السماجة أو بالغ الوقاحة!
هل هناك أحدٌ لا يعرف أنّ الفتنة نائمة لعن الله مَن أيقظها، وأنّ حكم الفتنة اجتنابها، وأنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً ليسوا من الله في شيء، وأنّ مِن علامات الإيمان الصحيح عدم تزكية النفس، وأنّ "حميّة الجاهليّة" بكل أشكالها وتمثّلاتها هي ليست من الدين وليست من الله في شيء حتى لو صام وصلّى صاحبها الدهر كلّه!
هل هناك أحدٌ لا يعرّف أنّ نمط التديّن السائد، سواء في شِقّه المدنيّ الناعم الذي ترعاه وزارات الأوقاف ومناهج التربية و"علماء السلطان" ووسائل الإعلام، أو في شِقّه "الثوريّ" الخشن الذي ترعاه وتهندسه وتموّله وتسلّحه أجهزة استخبارات قُطْريّة وإقليميّة ودوليّة.. هذا النمط هو حرف وتحريف واجتزاء وتفكيك وتشويه وشيطنة للدين نفسه، وهو الدين وقد أُعيد تعريفه وإنتاجه بما يخدم المنظومة الرأسماليّة العلمانيّة الإلحادية "الكُفريّة" القائمة؟!
هل هناك أحدٌ لا يعرف أنّ الربا حرام، ومجلبة لغضب الله وسخطه، وللقلق والتوتر وضنك العيش كمن يتخبّطه الشيطان من المسّ.. وأنّ النظام الاقتصاديّ والنقديّ الرأسماليّ الحديث الذي تغلغل في كلّ شيء وأصبح مرجعيّة كلّ شيء و"ضربة لازم" في كلّ شيء.. هو نظام ربويّ شيطانيّ من بابه لمحرابه حتى لو تلاعبنا بمسمّياته وفتاواه؟!
هل هناك أحدٌ لا يعرف أنّ الجهاد الذي يحارب منذ خمسين سنة في أربع جهات الأرض، ولم يُطلق يوماً رصاصةً واحدة باتجاه الكيان الصهيونيّ، وليس على أجندته تحرير فلسطين، ودائماً يصبّ للغرابة في المصلحة الأمريكيّة والغربيّة.. هو ليس جهاداً، وبينه وبين الجهاد الحقيقيّ ما بين السماوات والأرض؟!
هل هناك أحدٌ لا يعرف أنّ علاقة المحكوم بالحاكم في العالم العربيّ والإسلاميّ قد دخلت منذ وقت طويل في مرحلة الشِرك، وفي مرحلة "حكم الجاهليّة" (ولكن في حِلّة عصريّة)، وفي مرحلة طاعة المخلوق في معصية الخالق؟!
هل هناك أحدٌ لا يعرف أنّ علاقة الحاكم بالمحكوم في العالم العربيّ والإسلاميّ قد دخلت منذ وقت طويل في مرحلة "أنا ربّكم الأعلى"، ومرحلة "ما علمت لكم من إله غيري"، ومرحلة "استخفّ قومه فأطاعوه"، ومرحلة اتخاذ الكفّار أولياء من دون المؤمنين، ومرحلة ابتغاء العزّة عند الكافرين؟!
هل هناك أحدٌ لا يعرف أنّ جند فرعون وعبدة الطاغوت حُكْمهم هو حُكْم فرعون والطاغوت سواء بسواء؟!
هل هناك أحدٌ لا يعرف أنّ ما يُسمّى النظام الرسميّ العربي والإسلاميّ بقادته ومسؤوليه ونخبه ومؤسساته وأجهزته متواطؤون مع جميع ما ذكر، وهم جزء من هذه المخطّطات تمويلاً وتنفيذاً و"قطرزةً"وخدماتٍ أمنيّةً ولوجستيّةً وتكسّباً و"لحس أصابع" وتقمّم فتات؟!
كلنا في قرارة أنفسنا نعرف جميع ما تقدّم تماماً، وندركه تماماً، ونعيه تماماً.. ولكنّنا نتهرّب من الإقرار بذلك صراحة، ونلجأ إلى أساليب وألاعيب شتّى لكي نلتمسَ لأنفسنا الأعذار، ونتهرّبَ من مسؤولياتنا، ونتنصّلَ من التزامات واستحقاقات ما نعرفه وندركه ونعيه.
قائمة أساليب نفاق النفس التي نلجأ إليها طويلة، وتحتاج إلى بيان وشرح منفصل، ولكن أحقر ما في هذه الأساليب أنّها تُمارَس تحت غطاء زائف وكاذب من المَسْكَنة وإدّعاء الضعف وقلّة الحيلة والحيرة و"التوكّل" على الله (في حقيقته تواكل)!
وهناك من يمارسها باسم "الموضوعيّة" و"العقلانيّة" و"بُعد النظر" و"الحِنكة" والبحث عن "المصلحة العُليا" وسائر هذا الضرب من الكذب والهراء!
ولكن في حقيقة الأمر هذا من ذاك وذاك من هذا، وهذه من تلك وتلك من هذه!
بمعنى، السلطة مفهوم علائقيّ باتجاهين يغذّيان بعضهما البعض، وبالتالي خيانة وعمالة وفساد ولصوصيّة أولي الأمر وأصحاب القرار هي فرع من خيانة وعمالة وفساد ولصوصيّة الناس والعامّة (كلّ من موقعه وبمقدار ما تطال يده)... وخيانة وعمالة وفساد ولصوصيّة الناس والعامّة هي فرع من خيانة وعمالة وفساد ولصوصيّة أولى الأمر وأصحاب القرار الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين.. سواء بسواء!
المفارقة العجيبة، أنّ البعض يمكن أن يأتي على هذا الكلام، ويجعله هو الآخر ذريعة أخرى لنفاق النفس والتخاذل والتنصّل، من باب أنّه لا فائدة، ولا جدوى، وأنّ النخر قد وصل العظام، والرتق قد اتسع على الراثي.. وللتهرّب من إلزام الحُجّة الذي يتضمنه هذا الكلام لصاحبه قبل أي يُلزم أيّ إنسان آخر!
الجميع يدّعون الإيمان بالله تعالى ويومه الآخِر، والجميع يدّعون الإيمان بلقائه والوقوف بين يديه للسؤال والمحاسبة، وهم يُعدّون لذلك العُدّة من خلال حشد ما تتفتّق عنه عقولهم وضمائرهم من "أعذار" سيتذرّعون بها، غافلين أو متغافلين عن أنّهم بذلك يأتون بأكثر ما يستجلب غضب الله وسخطه في مثل ذلك المقام: المكابرة وسوق الأعذار ورفض الإقرار بالذنب حتى آخر لحظة!
أخبار متعلقة :