قبل أن يُصبح اسمه مرادفًا للاستثمار الحكيم، كان "وارن بافيت" شابًا يطرق أبواب شركات صغيرة يراجع دفاترها بدقة، ويحلل ميزانياتها بندًا بندًا، باحثًا عن فرص خفية لا يراها غيره.
كان يحمل في جيبه دفتر ملاحظات وقلماً، وفي ذهنه إيمان راسخ بأن القيمة الحقيقية لا تظهر في العناوين العريضة، بل في التفاصيل المهملة التي يتغافل عنها السوق.
واجه "بافيت" في بداياته الشكوك، وخسر بعض رهاناته، ولم تكن رحلته إلى قمة بيركشاير هاثاوي مفروشة بالمجد، إذ كانت رحلة محفوفة بالتحديات، تضمنت محاولات فاشلة لشراء شركات خاسرة، ومواجهات مع مجالس إدارات متحفّظة، وفترات من العزلة المهنية.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
لكن "بافيت" البالغ من العمر 94 عامًا، بسكينته المعهودة وولعه بالأرقام، أعاد تشكيل مفهوم الاستثمار طويل الأجل، وجعل من شركته مجموعة ضخمة تضم شركات متعددة الأنشطة من بينها الطيران، والسكك الحديدية، التأمين، والبرمجيات.
وحقق هذا المجد، دون أن ينسى بساطته اليومية، فلا يزال يقود سيارته بنفسه إلى العمل، ويعيش في المنزل ذاته الذي اشتراه في خمسينيات القرن الماضي، ولم يغره بريق الثروات.
تقاعد "بافيت" أخيرًا قبل يومين، أعاد طُرح سؤال: ماذا يحدث للشركات عندما يرحل عنها قادتها المؤسسون؟ وهل تقوى المؤسسات على الاستمرار، أم أنها قد تتعرض للانهيار بعد رحيل قادتها الأيقونيين؟
نهاية فصل استثنائي
أعلن الملياردير الأمريكي "وارن بافيت" تقاعده رسميًا من منصب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة "بيركشاير هاثاواي" بعد مسيرة استمرت لأكثر من ستة عقود في قيادة واحدة من أبرز قصص النجاح في تاريخ وول ستريت.
وجاء هذا الإعلان خلال الاجتماع السنوي للمساهمين يوم السبت الماضي، حيث أكّد "بافيت" أن الوقت قد حان لتمرير الشعلة، مطمئنًا المستثمرين بأن الشركة في "أيادٍ أمينة".
وقد أعلن "بافيت" أن نائبه والمقرّب منه منذ سنوات، "جريج أيبل"، هو من سيتولى القيادة التنفيذية، وكان الملياردير الأمريكي قد اختار "أيبل" نائبًا له قبل أربع سنوات، لكنه لم يُبدِ آنذاك أي إشارة إلى أنه سيتقاعد.
يُعد أيبل شخصية بارزة داخل "بيركشاير هاثاواي"، فقد قاد بنجاح قسم الطاقة في الشركة، مما عزز ثقة الأسواق بقدرته على مواصلة نهج رئيس الشركة السابق، مع تطوير رؤيته الخاصة.
ورغم الحزن الذي خيّم على عالم المال لرحيل أحد أبرز عمالقته، فإن الإعلان لم يُفاجئ المستثمرين الذين تابعوا لسنوات خطة خلافة مدروسة بهدوء، انعكست في استقرار سعر سهم "بيركشاير" بعد خبر تقاعد رئيسها.
ويمثّل تقاعد " بافيت" مؤخرًا من قيادة شركة بيركشاير هاثاوي نهاية فصل استثنائي في عالم المال والأعمال، ولكنه في الوقت نفسه يثير حالة من الترقب والقلق لدى المستثمرين، الذين اعتادوا لعقود الاعتماد على بصيرته الفريدة وقراراته الهادئة في أوقات التقلبات.
وحوّل بافيت شركة بيركشاير إلى تكتل اقتصادي ضخمتتجاوز قيمته السوقية تتجاوز تريليون دولار أمريكي، بعد أن كانت شركة نسيج متعثرة تترنح على حافة الإفلاس، لا يعبأ بها المستثمرون، ولا يراها أحد أكثر من مشروع خاسر في مدينة صغيرة.
لكن بافيت، رأى فيها نقطة انطلاق، فحوّلها تدريجيًا إلى مظلة تستوعب عشرات الشركات الناجحة.
أشهر عمليات التقاعد
تعد عمليات تقاعد قادة الشركات البارزين لحظات محورية قد تحمل العديد من التحديات والفرص في الوقت ذاته، لتثير أسئلة حول كيفية تأثير هذا التقاعد على مستقبل الشركات.
أحد أبرز هذه الحالات هو تقاعد "ستيف جوبز" من قيادة شركة آبل في عام 2011، بعد أن مكن الشركة من الوصول إلى قمة الابتكار في صناعة التكنولوجيا.
وقبل رحيله، كان هناك قلق واسع النطاق بشأن تأثير غيابه على آبل، ورغم ذلك استطاعت الشركة أن تضاعف أرباحها تحت قيادة "تيم كوك"، الذي تولى منصب المدير التنفيذي، وارتفعت قيمتها السوقية لتتجاوز 3 تريليونات دولار بحلول عام 2024.
أداء أسهم الشركات قبل وبعد إعلان تقاعد المؤسس:
الشركة
تاريخ التقاعد
سعر السهم قبل الإعلان
بالدولار الأمريكي
السعر بعد شهر
آبل
أغسطس 2011
13.3
14.3
أمازون
فبراير 2021
162.1
156.3
مايكروسوفت
يناير 2000
54.25
50.62
ستاربكس
يونيو 2000
4.67
4.63
بيركشاير هاثاواي
مايو 2025
539.8
غير متاح
ورغم النجاحات المالية الكبيرة، يرى البعض أن آبل فقدت بعضًا من "روحها الثورية" التي كانت تميزها خلال فترة "جوبز"، وأنها تحولت إلى التطوير التدريجي بدلًا من الابتكار الثوري المستمر.
ومن بين أمثلة التقاعد الشهيرة لقادة الشركات هناك قرر "جيف بيزوس" التنحي عن منصبه في أمازون عام 2021، حيث تسلّم "آندي جاسي" الراية وسط تحديات اقتصادية صعبة.
كانت أمازون تواجه تباطؤًا اقتصاديًا كبيرًا، بالإضافة إلى تسريح الموظفين مما أثر على سمعة الشركة.
واستطاع "جاسي" أن يحافظ على استقرار العمليات الأساسية للشركة، مع إعادة هيكلة بعض القطاعات وخفض التكاليف، كما عمل على تعزيز موقع أمازون في قطاع الحوسبة السحابية عبر ذراعها إيه دابليو إس، محاولًا أن يوازن بين إرث بيزوس ومتطلبات المرحلة الجديدة.
ومع هذا فإن الحماس الابتكاري الذي كان يشتهر به "بيزوس" قد خفت مع رحيله، ما ألقى بظلاله على استراتيجية النمو السريع التي كانت تميز الشركة في الماضي.
أما في مايكروسوفت، فقد كان تقاعد "بيل جيتس" عن القيادة التنفيذية في عام 2000 لحظة فارقة في تاريخ الشركة، وبالفعل واجهت مايكروسوفت تراجعًا في الابتكار خلال فترة قيادة "ستيف بالمر" مع مواجهتها للتغيرات السريعة في صناعة التكنولوجيا.
ومع تولي "ساتيا ناديلا" منصب المدير التنفيذي في 2014، بدأت مايكروسوفت في إعادة بناء زخمها، حيث ركزت على الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، مما ساعد في استعادة مكانتها في السوق التقنية العالمية.
أما "هوارد شولتز"، فقد كان مشهد تقاعده عن قيادة "ستاربكس" وعودته لتولي القيادة مشهدًا مكررًا.
فبعد استقالته الأولية في عام 2000، واجهت الشركة تراجعًا في المبيعات وعددًا من المشكلات الداخلية، إلا أنه عاد في 2008 لتوجيه الشركة خلال الأزمة المالية، واستمر في منصب الرئيس التنفيذي حتى عام 2017، حيث أعلن تقاعده مجددًا من المنصب التنفيذي.
وظل "شولتز" رئيسًا لمجلس إدارة ستاربكس حتى عام 2018، قبل أن يغادر الشركة تمامًا في ذلك العام، إلا أنه عاد مجددًا بشكل مؤقت في مارس 2022 كرئيس تنفيذي انتقالي، بعد استقالة "كيفن جونسون"، ثم سلّم القيادة للرئيس التنفيذي الحالي "لاكسمان ناراسيمهان" في 2023.
تحديات شائعة بعد رحيل القادة المؤسسين
بعد رحيل القادة المؤسسين، تواجه الشركات مجموعة من التحديات التي قد تؤثر بشكل كبير على استقرارها واستمرارها في النجاح.
ومن أبرز هذه التحديات هو تغيير الثقافة المؤسسية، إذ يصعب الحفاظ على نفس الثقافة التي رسخها القائد المؤسس طوال سنوات من العمل، خاصة إذا كان القائد قد أضفى طابعًا شخصيًا مميزًا على بيئة العمل.
كما تعاني بعض الشركات من فقدان ثقة المستثمرين، مع رحيل القائد المؤسس، حيث يشعر العديد من المستثمرين بالقلق حيال المستقبل، ما يضغط على سعر السهم ويجعل السوق أكثر تقلبًا بسبب الغموض الذي يحيط بما ستؤول إليه الشركة تحت القيادة الجديدة.
وكمثال على هذا ما حدث مع شركة آبل بعد إعلان "ستيف جوبز" استقالته من منصب الرئيس التنفيذي في أغسطس 2011 حيث انخفض سعر سهم آبل بنسبة 5% في تداولات لاحقة.
وخسرت الشركة مليارات الدولارات من قيمتها السوقية في غضون ساعات قليلة من إعلان الاستقالة، مما عكس قلق المستثمرين بشأن مستقبل الشركة بدون "جوبز"، الذي كان قوة دافعة وراء ابتكارات آبل مثل آي فون وآي باد.
ومع ذلك، تمكنت آبل لاحقًا من استعادة ثقة المستثمرين، حيث ارتفع سعر سهمها بشكل كبير تحت قيادة "كوك"، لتصبح أول شركة في العالم تتجاوز قيمتها السوقية 3 تريليونات دولار بحلول عام 2024.
علاوة على ذلك، قد يحدث تباطؤ في الابتكار، إذ عادة يكون القادة المؤسسون المحرك الرئيسي للأفكار الجديدة والتطورات التكنولوجية، وعندما يغادر هؤلاء القادة، قد يتراجع الابتكار وقدرة الشركة على تقديم منتجات وخدمات جديدة تلبي احتياجات السوق المتغيرة.
كما قد تواجه الشركات خسارة للكفاءات، حيث يتردد غالبًا الموظفون الموالون للقائد المؤسس في البقاء عندما يغادر، ما قد يدفعهم للبحث عن فرص أخرى.
وأخيرًا، قد تظهر صراعات داخلية بين الإدارة الجديدة ومجلس الإدارة، هذه الصراعات قد تكون نتيجة للاختلافات في الاستراتيجية أو في أسلوب القيادة، ما قد يؤثر على القرارات اليومية للشركة وقدرتها على التكيف مع التحديات.
كيف يمكن للشركات مواجهة تلك التحديات؟
من أجل تقليل أثر التغيير القيادي، تسعى الشركات لانتهاج عدة استراتيجيات حتى لا تقع في فخ تلك التحديات أولها التخطيط المبكر للخلافة، كما فعل "وارن بافيت" في بيركشاير، حيث كان لديه خطة واضحة بشأن من سيخلفه.
كما يساعد تبني الشركة للانتقال التدريجي في دعم هذا الأمر، مثلما فعل كل من "ستيف جوبز"، و"جيف بيزوس"، حيث ظلوا في أدوار استشارية أو كرؤساء مجالس إدارات بعد مغادرتهم المناصب التنفيذية.
في حين تلعب الشفافية دورًا أساسيًا في تعزيز الثقة، حيث يجب على الشركات طمأنة المستثمرين والجمهور من خلال وضع خطة واضحة للمستقبل.
في النهاية، يُظهر رحيل القادة المؤسسين للشركات العريقة كيف أن تأثيرهم يتجاوز حدود النجاح المالي، ليترك بصمة واضحة على الثقافة المؤسسية والرؤية المستقبلية.
كما أن هذه اللحظات هي بمثابة مفترق طرق تتطلب الحكمة والبصيرة من الإدارات الجديدة للمحافظة على استقرار الشركات وازدهارها في مواجهة التحديات القادمة.
وبينما تنقضي فصول من قصص هؤلاء العمالقة، يظل هناك ترقب حول كيف ستستمر الشركات في تشكيل مستقبلها بدونهم، فالرحيل قد يكون بداية لفصل جديد يتطلب حكمة ورؤية طويلة الأمد لضمان استمرارية النجاح وتفوق الشركات في عالم سريع التغيير.
المصادر: أرقام- رويترز- موقع شركة بيركشاير هاثاوي- مجلة فوربس- سي إن بي سي- فايننشال تايمز- بلومبرج- سي إن إن- إنفستوبيديا
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة ارقام ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من ارقام ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
0 تعليق