- في مؤلفه الجديد، "إغراء القومية الاقتصادية: ما وراء المحصلة الصفرية"، يقدم الاقتصادي كينيث أ. راينرت تحليلاً معمقاً لإشكالية القومية الاقتصادية.
- يتتبع راينرت جذورها التاريخية، ويستجلي تداعياتها على منظومة التجارة الدولية والسياسات العالمية، مفنّداً ببراعة المنطق القائم على فكرة "المحصلة الصفرية" التي ترى الاقتصاد ساحة صراع لا يمكن أن يخرج منها طرفان رابحينِ معاً.
- وبينما يطرح راينرت بدائل أكثر رشداً، كالتعددية والقومية المدنية، يبقى التساؤل الجوهري معلقاً: هل بات علم الاقتصاد، بأسسه التقليدية، بحاجة إلى مراجعة جذرية لمفهوم النمو اللانهائي، لاسيما في ظل تفاقم الأزمات العالمية التي تعصف بنا؟
تآكل الثقة في النظام العالمي
- لقد شهد العالم في السنوات القليلة الماضية سلسلة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتتابعة، تجلت في موجات ركود متكررة، وتصاعد مستويات التضخم، وتراجع ملحوظ في مظاهر التضامن الدولي.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
- ولم تسفر هذه الإخفاقات إلا عن تقويض حاد للثقة في ركائز النظام الرأسمالي العالمي ومبادئ الديمقراطية الليبرالية.
- دفع هذا المناخ الضاغط الأوساط الأكاديمية إلى مراجعة الأُسس الفكرية التي ترتكز عليها هذه المنظومات.
- وفي هذا السياق النقدي المتنامي، يأتي كتاب راينرت، ليضيف رؤية نقدية تسلّط الضوء على ظاهرة صعود القومية الاقتصادية.
الجذور التاريخية للقومية الاقتصادية
- يستمد راينرت نقطة انطلاقه التحليلية من سيرة وشخصية فريدريش ليست (1789-1846)، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع بوصفه الأب الروحي للقومية الاقتصادية.
- كان ليست، في عصره، يهدف إلى تمكين الدول الصاعدة آنذاك -كالولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وروسيا- من مجاراة القوة البريطانية المهيمنة، وذلك عبر دعم صناعاتها الوليدة بفرض رسوم جمركية مؤقتة تتيح لها فرصة النمو والمنافسة.
- غير أن راينرت يُلفت الانتباه إلى أن انتقائية القوميين الاقتصاديين المعاصرين في الأخذ ببعض أفكار ليست وتجاهل البعض الآخر منها تمثل إشكالية منهجية.
- كما يرى أن الاعتماد المفرط على التصنيع، بوصفه المحرك الأوحد للنمو الاقتصادي، قد تجاوزه الزمن في حقبة سلاسل القيمة العالمية المعقدة.
- حيث غدت القيمة المضافة تتمركز بشكل متزايد في مراحل ما قبل الإنتاج (كالبحث والتطوير) وما بعده (كالعلامات التجارية، والتوزيع، وخدمات ما بعد البيع)، وليس في عملية التصنيع المجردة بحد ذاتها.
منطق المحصلة الصفرية: فخ فكري مُقلق
- يتوقف راينرت بإسهاب عند تحليل عقلية المحصلة الصفرية، التي يتبناها الكثيرون، وتصوّر التجارة الدولية على أنها ساحة صراع لا بد فيها من رابح واحد وآخر خاسر؛ فالصادرات تُعد مكسباً صافياً، والواردات تمثل خسارة فادحة.
- وعلى الرغم من تهافت هذا المنطق أمام شواهد الواقع الاقتصادي المعقد، فإنه يظل راسخاً ومؤثراً بفعل التحيزات النفسية العميقة والمتأصلة في الطبيعة البشرية.
- يستدعي راينرت تجربة إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مثالاً حياً، ليبيّن كيف آلت محاولات تقليص العجز التجاري الأمريكي إلى الفشل الذريع، حتى مع تبني سياسات حمائية صارمة.
- ويعزو ذلك إلى أن التخفيضات الضريبية التي أقرها قد أسفرت عن تراجع في معدلات الادخار وزيادة في الاستهلاك، مما أفضى بدوره، ووفقاً للقواعد الاقتصادية، إلى تفاقم العجز التجاري، ليثبت الواقع فشل منطق المحصلة الصفرية في تحقيق أهدافه المعلنة.
- ولا يقف تأثير تفكير المحصلة الصفرية عند حدود الحسابات التجارية الضيقة، بل يتسع نطاقه ليزرع بذور التهديد في الحياة السياسية والاجتماعية ذاتها.
- إنه يقوّض أُسس التعددية وقيم الديمقراطية، ويكرّس لذهنية الاستقطاب الحاد والرفض المتبادل، نائياً بالفاعلين عن لغة الحوار البنّاء والتفاوض المثمر.
القومية الاقتصادية وتآكل منظومة التعددية الدولية
- يرى راينرت أن ولاية إدارة ترامب قد شكّلت منعطفاً حاسماً لهذا التوجه القومي الاقتصادي المنغلق؛ فقد سعت تلك الإدارة بصورة ممنهجة إلى شلّ عمل منظمة التجارة العالمية، التي تُعد إحدى أهم الركائز الضامنة لاستقرار منظومة التعددية الدولية، وذلك عبر تعطيل عمل هيئة الاستئناف المنوط بها الفصل في النزاعات التجارية بين الدول الأعضاء.
- ولا يقتصر هذا النقد اللاذع على الحالة الأمريكية فحسب، بل يتسع ليشمل ظواهر أخرى مقلقة شهدها العالم مؤخراً، كخروج بريطانيا من عباءة الاتحاد الأوروبي، وصعود المد الشعبوي ذو النزعة القومية في دول مؤثرة كالهند والبرازيل والمجر.
- فقد امتزجت في هذه التجارب السياسات القومية الاقتصادية بنوع من الشعبوية القومية ذات الخلفية العرقية، صاحبها في كثير من الأحيان تقويض ممنهج لمبادئ حكم القانون ومؤسساته.
التكنوقراطية القومية: سيف ذو حدين
- ويُطلق راينرت تحذيراً صريحاً من مغبة صعود ما يُصطلح عليه بـ "التكنوقراطية القومية"، وهي نزعة متنامية تربط التقنية والابتكار ربطاً وثيقاً بمفهوم الأمن القومي، مما يُفضي بالدول إلى فرض قيود صارمة على تبادل الابتكارات والمعرفة مع نظيراتها.
- وبينما قد تتستر هذه السياسات خلف قناع التدابير الدفاعية المبررة، فإنها في جوهرها تهدد بتقسيم العالم إلى تكتلات منعزلة ومغلقة، وتعطيل عجلة التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يستند جوهرياً إلى أُسس التعاون المفتوح وتبادل الخبرات بين الشعوب.
دعوة إلى إعادة النظر في الأسس الاقتصادية
- في ختام رحلته التحليلية العميقة، يؤكد راينرت على أن التعددية لم تعد مجرد خيار مفضّل أو قيمة أخلاقية رفيعة وحسب، بل باتت ضرورة حتمية وعملية لا غنى عنها لضمان تحقيق الأمن والازدهار على الصعيد العالمي.
- بيد أن بعض النقاد يأخذون على الكتاب عدم تعمقه بالقدر الكافي في الفرضية الأشد رسوخاً في الاقتصاد الحديث: ألا وهي السعي الدؤوب لتحقيق النمو الاقتصادي المستمر.
- ففي عالم تتفاقم فيه وطأة التغير المناخي وتتسع الهوة بين الفئات الاقتصادية والاجتماعية اتساعاً يثير القلق، يبدو الإصرار على حتمية نمو الناتج المحلي الإجمالي بلا سقف هدفاً باهظ الثمن وشديد الخطورة على مستقبل البشرية والكوكب.
- لقد بات من المستحيل غض الطرف عن حقيقة أن "المنفعة الحدية" لهذا النمو آخذة في التناقص، بينما يتعاظم، وبشكل مُفزع، الثمن الباهظ الذي تئن تحت وطأته البشرية والطبيعة على حد سواء.
نحو أفق اقتصادي جديد
- يخلص راينرت إلى ضرورة مقاومة إغراء التفكير القائم على منطق المحصلة الصفرية الذي يختزل العلاقات في صراع صفري.
- لكن يتمثل التحدي الأكبر والأكثر تعقيداً الذي يواجهنا في إعادة صياغة التصور الكلي لمنظومة الاقتصاد العالمي، والعمل بجدية على انتشالها من براثن الهوس بالنمو المتواصل، والارتقاء بها نحو نموذج أكثر عدالة وإنصافاً واستدامة للأجيال القادمة.
- وإلا، فإن مسيرة البشرية لن تفضي بها إلى مجرد لعبة محصلة صفرية، أو حتى حصيلة رابحة لأطراف بعينها، بل إلى مصير كارثي محتوم ينتظر الجميع.
المصدر: كلية لندن للاقتصاد
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة ارقام ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من ارقام ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
0 تعليق